فصل: نُزُولُ فَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي فِقْهِ هَذِهِ الْقِصّةِ:

.غُسْلُ الدّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ:

فِيهَا: أَنّ عَادَةَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ غُسْلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيهِ وَقَدْ صَحّ أَمْرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ. وَأَصَحّ الْأَقْوَالِ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ أَجْنَبَ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَمَنْ لَمْ يُجْنِبْ.

.لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَلّدَ النّاسَ فِي الْمَدْحِ وَالذّمّ:

وَفِيهَا: أَنّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَلّدَ النّاسَ فِي الْمَدْحِ وَالذّمّ وَلَا سِيّمَا تَقْلِيدَ مَنْ يَمْدَحُ بِهَوًى وَيَذُمّ بِهَوًى فَكَمْ حَالُ هَذَا التّقْلِيدِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الْهُدَى وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلّا مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللّهِ الْحُسْنَى. وَمِنْهَا: أَنّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ بِالْجَيْشِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ أُسْهِمَ لَهُمْ.

.وُقُوعُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ:

وَمِنْهَا: وُقُوعُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنّهَا إنّمَا تَكُونُ لِحَاجَةٍ فِي الدّينِ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ هِيَ الْأَحْوَالُ الرّحْمَانِيّةُ سَبَبُهَا مُتَابَعَةُ الرّسُولِ وَنَتِيجَتُهَا إظْهَارُ الْحَقّ وَكَسْرُ الْبَاطِلِ وَالْأَحْوَالُ الشّيْطَانِيّةُ ضِدّهَا سَبَبًا وَنَتِيجَةً.

.التّأَنّي وَالصّبْرُ فِي الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ:

وَمِنْهَا: التّأَنّي وَالصّبْرُ فِي الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَنْ لَا يُعَجّلَ بِالْعُقُوبَةِ وَالدّعَاءِ عَلَى الْعُصَاةِ وَأَمّا تَعْبِيرُهُ حَلْقَ رَأْسِهِ بِوَضْعِهِ فَهَذَا لِأَنّ حَلْقَ الرّأْسِ وَضْعُ شَعْرِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ لَا يَدُلّ بِمُجَرّدِهِ عَلَى وَضْعِ رَأْسِهِ فَإِنّهُ دَالّ عَلَى خَلَاصِ مِنْ هَمّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ شِدّةٍ لِمَنْ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ وَعَلَى فَقْرٍ وَنَكَدٍ وَزَوَالِ رِيَاسَةٍ وَجَاهٍ لِمَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي مَنَامِ الطّفَيْلِ قَرَائِنُ اقْتَضَتْ أَنّهُ وَضَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا أَنّهُ كَانَ فِي الْجِهَادِ وَمُقَاتَلَةِ الْعَدُوّ ذِي الشّوْكَةِ وَالْبَأْسِ.

.بَيَانُ تَأْوِيلِ الطّفَيْلِ لِرُؤْيَاهُ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ دَخَلَ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ الّتِي رَآهَا وَهِيَ الْأَرْضُ الّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمّهِ وَرَأَى أَنّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ إعَادَتُهُ إلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} [طَه: 155] فَأَوّلَ الْمَرْأَةَ بِالْأَرْضِ إذْ كِلَاهُمَا مَحَلّ الْوَطْءِ وَأَوّلَ دُخُولَهُ فِي فَرْجِهَا بِعَوْدِهِ إلَيْهَا كَمَا خُلِقَ مِنْهَا وَأَوّلَ الطّائِرَ الّذِي خَرَجَ مِنْ فِيهِ بِرُوحِهِ فَإِنّهَا كَالطّائِرِ الْمَحْبُوسِ فِي الْبَدَنِ فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ كَانَتْ كَالطّائِرِ الّذِي فَارَقَ حَبْسَهُ فَذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَلِهَذَا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنّةِ وَهَذَا هُوَ الطّائِرُ الّذِي رُئِيَ دَاخِلًا فِي قَبْرِ ابْنِ عَبّاسٍ لَمّا دُفِنَ وَسُمِعَ قَارِئٌ يَقْرَأُ {يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً} [الْفَجْرِ 27]. وَعَلَى حَسَبِ بَيَاضِ هَذَا الطّائِرِ وَسَوَادِهِ وَحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ تَكُونُ الرّوحُ وَلِهَذَا كَانَتْ أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي صُورَةِ طُيُورٍ سُودٍ تَرِدُ النّارَ بُكْرَةً وَعَشِيّةً وَأَوّلَ طَلَبَ ابْنِهِ لَهُ بِاجْتِهَادِهِ فِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِي الشّهَادَةِ وَحَبْسُهُ عَنْهُ هُوَ مُدّةُ حَيَاتِهِ بَيْنَ وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ وَالْيَرْمُوكِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ نَجْرَانَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ بِالْمَدِينَةِ فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ لَمّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا يُصَلّونَ فِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعُوهُمْ فَاسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ فَصَلّوْا صَلَاتَهُمْ.

.ذِكْرُ أَبِي حَارِثَةَ حَبْرِهِمْ:

قَالَ وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيّ عَنْ كُرْزِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ سِتّونَ رَاكِبًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إلَيْهِمْ يَئُولُ أَمْرُهُمْ الْعَاقِبُ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ وَاَلّذِي لَا يَصْدُرُونَ إلّا عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ وَالسّيّدُ ثِمَالُهُمْ وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أُسْقُفُهُمْ وَحَبْرُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ. وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ وَكَانَتْ مُلُوكُ الرّومِ مِنْ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ قَدْ شَرّفُوهُ وَمَوّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ.

.كَانَ أَبُو حَارِثَةَ يَعْلَمُ أَنّ مُحَمّدًا النّبِيّ الْمَوْعُودُ:

فَلَمّا وَجّهُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نَجْرَانَ جَلَسَ أَبُو حَارِثَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ مُوَجّهًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلَى جَنْبِهِ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ يُسَايِرُهُ إذْ عَثَرَتْ بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ فَقَالَ لَهُ كُرْزٌ تَعِسَ الْأَبْعَدُ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ بَلْ أَنْتَ تَعِسْتَ. فَقَالَ وَلِمَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ وَاَللّهِ إنّهُ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي كُنّا نَنْتَظِرُهُ. فَقَالَ لَهُ كُرْزٌ فَمَا يَمْنَعُك مِنْ اتّبَاعِهِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا؟ فَقَالَ مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ شَرّفُونَا وَمَوّلُونَا وَأَكْرَمُونَا وَقَدْ أَبَوْا إلّا خِلَافَهُ وَلَوْ فَعَلْتُ نَزَعُوا مِنّا كُلّ مَا تَرَى فَأَضْمَرَ عَلَيْهَا مِنْهُ أَخُوهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ حَتّى أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.

.التّحَاجّ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي مُحَمّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا يَهُودِيّا وَقَالَتْ النّصَارَى: مَا كَانَ إلّا نَصْرَانِيّا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ 65- 66] فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَحْبَارِ أَتُرِيدُ مِنّا يَا مُحَمّدُ أَنْ نَعْبُدَك كَمَا تَعْبُدُ النّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ: أَوَ ذَلِكَ تُرِيدُ يَا مُحَمّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللّهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا أَمَرَنِي فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ 79] ثُمّ ذَكَرَ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ بِتَصْدِيقِهِ وَإِقْرَارِهِمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ} إلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الشّاهِدِينَ} [آلِ عِمْرَانَ 81].

.نُزُولُ فَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ:

وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ لَمّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ نَزَلَ فِيهِمْ فَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ إلَى رَأْسِ الثّمَانِينَ مِنْهَا. وَرُوِينَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ الْحَاكِمِ عَنْ الْأَصَمّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ يَسُوعَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ- قَالَ يُونُسُ وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَأَسْلَمَ- إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ بِاسْمِ إلَهِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللّهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ وَأَدْعُوكُمْ إلَى وِلَايَةِ اللّهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِبَادِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ فَإِنْ فَلَمّا أَتَى الْأُسْقُفَ الْكِتَابُ فَقَرَأَهُ فَظِعَ بِهِ وَذَعَرَ بِهِ ذُعْرًا شَدِيدًا فَبَعَثَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَدَاعَةَ وَكَانَ مِنْ هَمْدَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُدْعَى إذَا نَزَلَ مُعْضِلَةٌ قَبْلَهُ لَا الْأَيْهَمُ وَلَا السّيّدُ وَلَا الْعَاقِبُ فَدَفَعَ الْأُسْقُفُ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ الْأَسْقُفُ يَا أَبَا مَرْيَمَ مَا رَأْيُك؟ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ قَدْ عَلِمْت مَا وَعَدَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ فِي ذُرّيّةِ إسْمَاعِيلَ مِنْ النّبُوّةِ فَمَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ ذَلِكَ الرّجُلُ لَيْسَ لِي فِي النّبُوّةِ رَأْيٌ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَهُوَ مِنْ ذِي أَصْبَحَ مِنْ حِمْيَرَ فَاجْلِسْ فَتَنَحّى شُرَحْبِيلُ فَجَلَسَ نَاحِيَةً فَبَعَثَ الْأُسْقُفُ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَهُوَ مِنْ ذِي أَصْبَحَ مِنْ حِمْيَرَ فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ وَسَأَلَهُ عَنْ الرّأْيِ فِيهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ. فَقَالَ لَهُ الْأَسْقُفُ تَنَحّ فَاجْلِسْ فَتَنَحّى فَجَلَسَ نَاحِيَةً فَبَعَثَ الْأُسْقُفُ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ جَبّارُ بْنُ فَيْضٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ وَسَأَلَهُ عَنْ الرّأْيِ فِيهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ وَعَبْدِ اللّهِ فَأَمَرَهُ الْأُسْقُفُ فَتَنَحّى. فَلَمّا اجْتَمَعَ الرّأْيُ مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ جَمِيعًا أَمَرَ الْأُسْقُفُ بِالنّاقُوسِ فَضُرِبَ بِهِ وَرُفِعَتْ الْمُسُوحُ فِي الصّوَامِعِ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إذَا فَزِعُوا بِالنّهَارِ وَإِذَا كَانَ فَزَعُهُمْ بِاللّيْلِ ضُرِبَ النّاقُوسُ وَرُفِعَتْ النّيرَانُ فِي الصّوَامِعِ فَاجْتَمَعَ- حِينَ ضُرِبَ بِالنّاقُوسِ وَرُفِعَتْ الْمُسُوحُ- أَهْلُ الْوَادِي أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ وَطُولُ الْوَادِي مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِلرّاكِبِ السّرِيعِ وَفِيهِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ قَرْيَةً وَعِشْرُونَ وَمِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ الرّأْيِ فِيهِ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَهْلِ الْوَادِي مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا شُرَحْبِيلَ بْنَ وَدَاعَةَ الْهَمْدَانِي وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ وَجَبّارَ بْنَ فَيْضٍ الْحَارِثِيّ فَيَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.الْمُبَاهَلَةُ فِي شَأْنِ عِيسَى:

فَانْطَلَقَ الْوَفْدُ حَتّى إذَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَضَعُوا ثِيَابَ السّفَرِ عَنْهُمْ وَلَبِسُوا حُلَلًا لَهُمْ يَجُرّونَهَا مِنْ الْحِبَرَةِ وَخَوَاتِيمَ الذّهَبِ ثُمّ انْطَلَقُوا حَتّى أَتَوْا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَلّمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ السّلَامَ وَتَصَدّوْا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَلَمْ يُكَلّمْهُمْ وَعَلَيْهِمْ تِلْكَ الْحُلَلُ وَالْخَوَاتِيمُ الذّهَبُ فَانْطَلَقُوا يَتّبِعُونَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَعَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَا مَعْرِفَةً لَهُمْ كَانَا يُخْرِجَانِ الْعِيرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلَى نَجْرَانَ فَيُشْتَرَى لَهُمَا مِنْ بُرّهَا وَثَمَرِهَا وَذُرَتِهَا فَوَجَدُوهُمَا فِي نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالُوا: يَا عُثْمَانُ وَيَا عَبْدَ الرّحْمَنِ إنّ نَبِيّكُمْ كَتَبَ إلَيْنَا بِكِتَابٍ فَأَقْبَلْنَا مُجِيبِينَ لَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْنَا سَلَامَنَا وَتَصَدّيْنَا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَأَعْيَانَا أَنْ يُكَلّمَنَا فَمَا الرّأْيُ مِنْكُمَا أَنَعُودُ؟ فَقَالَا لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي الْقَوْمِ مَا تَرَى يَا أَبَا الْحَسَنِ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ عَلِيّ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: أَرَى أَنْ يَضَعُوا حُلَلَهُمْ هَذِهِ وَخَوَاتِيمَهُمْ وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ سَفَرِهِمْ ثُمّ يَأْتُوا إلَيْهِ فَفَعَلَ الْوَفْدُ ذَلِكَ فَوَضَعُوا حُلَلَهُمْ وَخَوَاتِيمَهُمْ ثُمّ عَادُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَلّمُوا عَلَيْهِ فَرَدّ سَلَامَهُمْ ثُمّ سَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وَبِهِمْ الْمَسْأَلَةُ حَتّى قَالُوا لَهُ مَا تَقُولُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ؟ فَإِنّا نَرْجِعُ إلَى قَوْمِنَا وَنَحْنُ نَصَارَى فَيَسُرّنَا إنْ كُنْت نَبِيّا أَنْ نَعْلَمَ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ يَوْمِي هَذَا فَأَقِيمُوا حَتّى أُخْبِرَكُمْ بِمَا يُقَالُ لِي فِي عِيسَى عَلَيْهِ السّلَام فَأَصْبَحَ الْغَدُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آلِ عِمْرَانَ 59- 61] فَأَبَوْا أَنْ يُقِرّوا بِذَلِكَ فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَدَ بَعْدَمَا أَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي خَمِيلٍ لَهُ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَمْشِي عِنْدَ ظَهْرِهِ لِلْمُبَاهَلَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ عِدّةُ نِسْوَةٍ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ لِصَاحِبَيْهِ يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ وَيَا جَبّارُ بْنُ فَيْضٍ قَدْ عَلِمْتُمَا أَنّ الْوَادِيَ إذَا اجْتَمَعَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ أَرَى أَمْرًا مُقْبِلًا وَأَرَى وَاَللّهِ إنْ كَانَ هَذَا الرّجُلُ مَلِكًا مَبْعُوثًا فَكُنّا أَوّلَ الْعَرَبِ طَعَنَ فِي عَيْنِهِ وَرَدّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَا يَذْهَبُ لَنَا مِنْ صَدْرِهِ وَلَا مِنْ صُدُورِ قَوْمِهِ حَتّى يُصِيبُونَا بِجَائِحَةٍ وَإِنّا أَدْنَى الْعَرَبِ مِنْهُمْ جِوَارًا وَإِنْ كَانَ هَذَا الرّجُلُ نَبِيّا مُرْسَلًا فَلَاعَنّاهُ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنّا شَعْرَةٌ وَلَا ظُفْرٌ إلّا هَلَكَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبَاهُ فَمَا الرّأْيُ فَقَدْ وَضَعَتْك الْأُمُورُ عَلَى ذِرَاعٍ فَهَاتِ رَأْيَك؟ فَقَالَ رَأْيِي أَنْ أُحَكّمَهُ فَإِنّي أَرَى رَجُلًا لَا يَحْكُمُ شَطَطًا أَبَدًا. فَقَالَا لَهُ أَنْتَ وَذَاكَ. فَلَقِيَ شُرَحْبِيلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي قَدْ رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْ مُلَاعَنَتِك فَقَالَ وَمَا هُوَ؟ قَالَ شُرَحْبِيلُ حُكْمُك الْيَوْمَ إلَى اللّيْلِ وَلَيْلَتَك إلَى الصّبَاحِ فَمَهْمَا حَكَمْت فِينَا فَهُوَ جَائِزٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَلّ وَرَاءَكَ أَحَدًا يُثَرّبُ عَلَيْك فَقَالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ سَلْ صَاحِبِيّ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا: مَا يَرِدُ الْوَادِي وَلَا يَصْدُرُ إلّا عَنْ رَأْيِ شُرَحْبِيلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَافِرٌ أَوْ قَالَ جَاحِدٌ مُوَفّق.